كنتُ أتصوّر أن الفساد شذوذٌ، والشذوذ تَشَوّهٌ موقّتٌ في قامة الوطن. ولكنني لم أكن أتصوّر أن الفساد يُمكن أن يكون وطناً نسكنه، وكتاباً ندرسه ونُدرِّسه، وهواءً نستنشقه! كنت أتصوّر أن الأزمات مفتاح التّضامن والتّعاطف، وهما من الإلتزامات الأخلاقيّة التي تُعزّز إنسانيّة الإنسان. ولم أكن أتصوّر أنّ الأزمات تشحذ أنياب البهيمية البشرية، فتفترس وتُهلِك! كنت أتصوّر أنّ السّلاح آلة القتل الأشد فتكاً! ولم أكن أتصوّر، ولو للحظة واحدة، أن هناك من البشر مَن يقتلون من دون أن يستعملوا سلاحاً، ومن دون أن يضغطوا على زناد! وللأسف كلّ هؤلاء موجودون في وطني، وهم عيبُ وطني! إنّهم المُستغلّون، المحتكرون، السّارقون، الإنتهازيّون، الوصوليّون، الشّاذّون والفاسدون!.
شذّوا وفَسدوا وفَجَروا في السّياسة، وفي الإقتصاد والتّجارة، وفي الإدارة والأعمال والخدمات، وفي الصّحة، وفي الدّين والدنيا، وفي المرافق العامّة والخاصّة. استثمروا ضيقة الناس، وفقر الناس، وحاجة الناس إلى لقمة خبز، وقطرة ماء، وحبة دواء، وصفيحة وقود، ليرفعوا أهراءهم، ويملؤوا جيوبهم، ويُوسّعوا قصورهم! ومع هذه كلّها، وسّعوا ضمائرهم لتتّسع لكل أنواع العفونة والإنتان!.
مُخيفٌ ومُعيبٌ ومُشينٌ هذا العقل المافياوي المُجرم الذي يَسوق الناس إلى الموت غير عابئ بحالهم وبحالتهم! مُخيفٌ ومُعيبٌ ومُشينٌ هذا العقل الإجرامي الذي يمتهن القهر والإذلال من دون أن يحسب حساباً لوجع الناس وآلامهم، ولا لحياتهم وموتهم!.
السّرقة جريمة يستبيح فاعلها لنفسه، تَعب غيره. وفي الدولة يستبيح الفاعل لنفسه أن ينهب مال الشّعب الذي يُساهم في رفاهيّة الشّعب، واستثمار الضّيقة جريمة! الإحتكار جريمة تحرم الإنسان من مقوّمات الحياة والصّمود، واشتهاء البؤس لخدمة المصالح الخاصّة كذلك! وربّما بإمكاننا أن نتقبّل، ولو على مضضٍ، كل هذه الشّرور! ولكن ما لا يُمكن تقبّله على الإطلاق ولو مهما كثُرت الأعذار، هو حَجْر الدّواء عن مريض يُصارع الموت! هذا ليس مُجرّد احتكار! هذا ليس مُجرّد استثمار! هذه ليست مُجرّد جريمة يرتكبها مُرتكب في ظروف معيّنة، وحدود مُحدّدة! هذه جريمة ضدّ الإنسانيّة، ذلك أنّ احتكار الدّواء يُهدّد بالموت حياة شّعب بكامله!.
أهلنا وأصدقاؤنا في العالم كلّه يُشفقون علينا، ويستميتون لمساعدتنا! الدّول تُشفق علينا، حتى أفقرها وأشدها حاجةً إلى ما تمدّنا به! تُشفق على الإنسان المُعذّب والمُستغَلَّ في بلدي، وكُثُرٌ من أبناء بلدي لا يشفقون! نستميت على حبّة دواء، ويستميتون لإعطائنا حبّة دواء، ومصلاً، وجُرعة حياة، والأدوية عندنا مُكدّسةٌ في مغاور الجشع والطّمع!.
يا للعار! يا للفضيحة! مَن يتحمّل مسؤولية ما وصلنا إليه!.
مَن يتحمّل مسؤوليّة إذلال النّاس، وقهرهم، وإقلاقهم على حياتهم وحياة أطفالهم! مَن يتحمّل مسؤولية موت الأطفال، والمُصابين بالسّرطان، والأمراض المُزمنة الذين حُجِرعليهم الدّواء! أنتم، نعم أنتم الذين تعرّيتم من إنسانيتكم! أنتم تجّار الموت! أنتم تُجّار النكبات! أصحاب الأيادي المُلطّخة بالدماء! إنّ دماء المرضى تصرخ من الأرض، وتستجير بربّ السّماء عليكم أنتم الذين تستحقّون غضب السّماء والأرض، وأن تُسقط عليكم كلّ صفات البذاءة الموجودة في قاموس اللغة العربيّة! نعم، أنتم كلّكم تتحمّلون موت مَن مات ويَموت بسبب جوعكم المتوحّش إلى المال! أنتم اللاإنسانيّون، واللاآدميّون...أنتم الذين يتسربلون بهندام الفضيلة والتقوى، ويخدّرون ضمائرهم بأعذارٍ واهية! إليكم يقول الشّعب، وصوت الشّعب هو صوت الله: لن ترأف بكم أمام الله والإنسان، لا ركعاتكم ولا صلواتكم ولا صدقاتكم، ولا أيّاً من ملحماتكم "الإلهيّة"!.
وتسألون بعدُ لِمَ هذا الفساد في الطّبقة السّياسية! دعوني أقول لكم لِماذا؟ لأنّ الفاسدين ينتخبون فاسدين! الشّعب الفاسد، يُنجب طبقة فاسدة هي منه وفيه! صورة الطّبقة السياسيّة الفاسدة، هي تجلٍّ لصورة شعبٍ فاسد يُصرّ على الفساد! هذه هي الحقيقة المُرّة والبسيطة، والمُجرّدة من الإلتواءات! الشّعب السّالك في ظلمة الفساد، أنجب طبقةً سياسيّة فاسدة تسلّطت عليه، وعلى رِقاب الشّرفاء في هذا الوطن الذي سنُعيد بناؤه بالبقيّة الباقيّة.
وفي المُحصّلة، إن كان مَن يحتكرُ الحنطة يلعنه الشّعب(أمثال11: 2)، فكيف بمَن يحتكر الدّواء!.